التحرير، فن التشذيب
/
/
الكتابة في جوهرها فعل إبداعي، حيث تُصاغ الأفكار بصورتها الأولية، ليأتي التحرير بعد ذلك لنقل هذه الأفكار إلى نص متماسك يُصيب الفكرة في مكانٍ حيّ.
يتجاوز مفهوم التحرير عملية التصحيح التقني إلى التأثير في جوهر الكتابة، إنه عملية إعادة ترتيب تفاصيل النص وإبراز جمالياته لإيصال الفكرة برشاقة.
يتضمن التحرير رحلة مزدوجة تجمع بين الإضافة والحذف، حيث تتطلب من الكاتب أن يقف على مسافة كافية من نصه للنظر بعينٍ ناقدة، يطرح خلالها أسئلةً: هل تخدم هذه الجملة الفكرة؟ هل تكررت الفكرة بطرق مختلفة؟ هل هذه الصياغة مناسبة للجمهور المقصود؟ .. وغيرها، ليتحوّل النص من مسوَّدة أولى إلى عمل أكثر تماسكًا وقوة، ويعكس رؤية الكاتب بعمق ووضوح، ولا بد من التأكيد أن التحرير عملية شُجاعة؛ قد ينطوي تحتها تخلٍ عن جماليات لا تخدم النص، ومرونة في إعادة صياغة الجُمَل لتصبح أقرب للقارئ وأكثر تجسيدًا للفكرة.
يختلف التحرير في المؤسسات عن التحرير الفردي، إذ يخضع لهوية لغوية واضحة تُعرف عبر دليل الأسلوب (Style Book)، أو ما يُسمَّى دليل الكتابة والتحرير، وهو مرجع تنظيمي يحدد قواعد الصياغة والأسلوب التي تُبرز هوية المؤسسة، ولا يقتصر على القواعد النحوية أو الإملائية، بل يتناول نبرة الخطاب، والمصطلحات المفضلة، وطريقة ترتيب النصوص، وربما أبعد من ذلك فيتجاوز التقنيات، إلى التوجهات والرؤى الرئيسة والقيم التي تتبناها المؤسسة وتُمثلها! يُمكّن هذا الدليل المؤسسات من الحفاظ على اتساق لغوي يعبر عن هويتها، ويصبح التحرير -في هذا السياق- أداة لإبراز شخصية المؤسسة وتعزيز صورتها عند الجمهور، وتملك المؤسسات المُحترفة بصمة لُغوية مميزة تجعلها معروفة من خلال نصوصها حتى دون الإشارة إلى اسمها، ولا تتشكَّل هذه البصمة تلقائيًا، بل هي نتاج عمل منهجي تراكمي مُتقن، ويتجاوز دور المُحرر هنا التصحيح النحوي والإملائي، إلى كونه شريك إستراتيجي في إيصال صوت المؤسسة، يترجم رؤيتها وقيمها ويحمل روحها ويخاطب جمهورها بوضوح، ويتطلب هذا المستوى وعيًا عميقًا بالهوية المؤسسية واحتياجات الجمهور المستهدف، ما يجعل التحرير أداة بناء استراتيجية.
يُشبه النص الجيد صوت ترنيمة ذات إيقاع لا يكتمل إلا بالتوازن وضبط الإيقاع، وأداةُ التحرير هي ضابطة هذا الإيقاع، فيتنقل القارئ -ببراعة حضورها- بين الأفكار بسلاسة ويتشرّب الرسالة دون جهد، إنه عملية إبداعية تعيد صياغة النص ليتحول إلى تجربة مقنعة ومؤثرة.