المحاكاة القلميّة، أداة نموّ
/
/
وإن كنتُ أميلُ إلى أنَّ المرء يولدَ كاتبًا، وأن الاستعداد الفطريّ عاملٌ مركزيّ في القُدرة القلميّة، إلا أنَّ المهارة الكتابية لا تكفيها الموهبة المجردة وحدها، بل تُصقل بالدربة والمراس، ومن أعظم أدوات التمرين التي تُنبت القلم وتُقوّم المعنى: المحاكاة! ليست محاكاة العجز، بل محاكاة التأمل والنمو، حيث يقف المرء على أكتاف سُراة الكُتّاب وكبارهم، ويستخرج ما يُمكن أن يبني به صرحهُ المتفرد.
يُكسب هذا الأسلوب في التدريب الكاتب فضيلتين عظيمتين: فضيلة التواضع التي تُلهمه أن يتعلم ممن سبق، وفضيلة الإبداع التي تدفعه إلى أن يُضيف إلى ما تعلّم، وبهاتين الفضيلتين، يُصبح للكاتب أثر في فكرته وقضيته.
تبدأ رحلة المحاكاة من انتقاء النصوص التي تحمل في أكنافها المعاني الجزلة والأساليب الرصينة، وسينعكس حُسنُ اختيار المرء للنصوص في هذه المرحلة على قوة بناء نصوصه ومتانتها ورسوخها، فما كل نصٍ صالح لاتخاذه قدوة وقِبلة، والعبرة ليست بجمال العبارة فحسب، بل بعمق الفكرة وتماسك الحجة.
ينطلق الكاتب في رحلة تأملية، يتفحص النص ويختبره ويطرح عليه الأسئلة، مُحللًا كيفية إطلاق الكاتب فكرته، وكيفية بناء مقدمة تشدّ القارئ وتجذبه، وكيفية الإغلاق بخاتمة تترك أثرًا، يُلاحظ هنا التناسب بين الألفاظ والمعاني، والأمثلة والحجج، وكأن الكاتب يتعلم، لا من النصوص ذاتها، بل من منطق النصوص وبنيتها العميقة، وكأنه يُطل على آفاق أبعد، لبدء رحلته من مُقلدٍ للأثر، إلى صانع للتأثير.
بعد مباشرة المحاكاة، يعيد الكاتب صياغة النص بما ينسجم مع منطقه وفكره، فلا يكتفي بالتقليد البارد، بل يسعى لصناعة نسخته الخاصة، نسخة تمتزج فيها قوة النص الأصلي مع لمسة الكاتب المتفردة، والمحاكاة هنا محطة اكتشاف للهوية الكتابية.
وبعد كتابة النص يأتي دور المراجعة، وهنا تتجلى مرحلة التمحيص: هل النص يُعبِّر عن روح الكاتب ويحمل بصمتهُ اللغوية؟ هل يحمل نفس القوة التي تأملها في النصوص الأصلية؟ وفي هذه المرحلة يُصحح الكاتب مساره ويعيد بناء عباراته حتى تتقارب من الرؤية التي ينشدها ويسعى إليها.
المحاكاة هي محراب الصقل وصناعة الإبداع، كما أنها مسار يفتح للكاتب بابًا لفَهم الجماليات اللغوية والمنطقية، ومن خلال المحاكاة الواعية يتحول الكاتب من قارئ مأخوذ بجمال النصوص إلى صانع يُبدع نصوصًا لا تقل عنها بهاءً.