التجربة إرث مشترك
/
/
“كنت أغرف من بحر وأنا اليوم أنحت في الصخر، كان الفكر شابًا فشاخ، فمن قال لكم إنّ الفكر لا يشيخ فلا تصدّقوه! كان قلمي يجري على القرطاس كفرس السباق لا أستطيع أن أُجاريه، فأمسى كالحصان العجوز أجرّه فلا يكاد يُجَرّ!”
بهذه الكلمات، أطلق الطنطاوي [الذكريات: ٢٦] دعوتهُ العميقة لتوثيق التجارب والذكريات قبل أن تفتر الذاكرة أو يبهت الفكر، وهي تذكيرٌ بأن الوقت ليس حليفًا دائمًا، وأن كل تجربة غير موثّقة هي صفحة قد لا تُستعاد أبدًا!
يتحمّل روّاد أي قطاع أو فكرة مسؤولية تدوين تجاربهم التي هي حق للأجيال المتتابعة على مقدماتٍ متشابهة، يسعُنا ترشيد كثيرٍ من الجهود المُهدرة بتدوين التجارب وتوثيقها ثم توريثها، توريث التجارب يعني خدمة الفكرة والإسهام في التراكم المعرفي الذي سينعكس على أدبياتها وعملها وأثرها.
تحمل التجارب الإنسانية في أكنافها دروسًا مُلهمة، ويُخلَّد هذا الإلهام بالكتابة، وما لم يُكتب اليوم فقد لا يُكتب أبدًا، والكتابة تُحوّل التجارب الفردية إلى إرث مشتركٍ يربط الأجيال ببعضها، ويتيح للآخرين استلهام العبر دون الحاجة إلى خوض نفس المصاعب، وفي هذا السياق فقد وظَّف ابن حزم الأندلسي في (الأخلاق والسير) التجارب الشخصية والاجتماعية في مقارباته الأخلاقية بطريقة مذهلة، حيث جمع بين التجربة العملية والتنظير الفلسفي وقدمها للقارئ في سياق تطبيقي، محاولًا بناء فهم شامل للكيفية التي يُمكن من خلالها تحسين الأخلاق والسلوكيات الاجتماعية، أخذت تجربة ابن حزم هذه امتدادًا على الفكر الإسلامي والعربي، وساعدت على تشكيل فهم جديد للأخلاق وكيفية توظيف التجارب الشخصية في تحقيق التغيير الاجتماعي من خلال تعزيز السلوك الفردي.
انتظار اللحظة المثالية للتوثيق هو إتاحة الفرصة لتَيه الذاكرة، مع استحضار ما قاله ستيف أولشر [ما هي ميزتك الوحيدة؟]: ”ألَّفتُ هذا الكتاب بانتزاع ساعات ضالة خلال اليوم، وتعودتُ الكِتابة بعد وضع الأطفال في أسرّتهم مباشرة، والعمل أكثر أيام نهاية الأسبوع، ولأن إنهاء الكتاب كان هدفا محددا بوضوح، فقد استثمرتُ كل لحظة مُتاحة يمكن استثمارها لإنجازه.. تجنب مستهلكات الوقت، فإنجازاتك على المحك!”