حين تبني العائلات سيرةَ المعنى

وقت القراءة: 3 دقائق

/

/

وقف أحد أحفاد كونفوشيوس -بعد مرور أكثر من سبعة عشر قرنًا- أمام قبر جدّه الأكبر، وقال: “ما زلتُ أشعرُ أنني جزءٌ من فكرة طويلة لم تكتمل بعد!”، ذلك أن إدراك الإرث يعني العمل على نقله من حالة الذكرى الجامدة إلى المشروع الممتد، ومن حكاية منسية إلى عهد داخلي يربط الإنسان بمن سبقه، ويوجهه إلى ما بعده.
تمضي العائلة التي تعي إرثها في الزمن بجذورٍ عميقة، وتمنح الاسم الذي تحملهُ معنًى يتجاوز حدود الماضي والأشخاص، لينعطف إلى رؤية تُستأنف، ونيةٍ تُستكمل عبر تعاقب الأجيال الذين يشكّلون الامتداد الحي لما بدأه الجد الأول.
تُشكِّل كل تجربة راشدة مرّت بها العائلة، وكل موقف صدقٍ تحلّى به أحد أبنائها، وكل قيمة غرسها الزمن في سلوكها الجمعيّ مادةً قابلة للتصنيف والتوريث، فتُستحضر لتحفيز الهمم، وتعزيز الرؤى، وبناء الامتداد، وما إن تتشكل هذه الرؤية في وجدان العائلة، حتى تنشأ الحاجة للتوثيق؛ لجمع النفوس على فهمٍ مشترك لماهية العائلة، ولماذا هي كما هي، وما قيمها، وما الذي يُنتظر منها في المراحل الآتية، وفي هذا التوثيق، تُدوّن السِيَر، وتُكثَّف القيم الكبرى في نصٍ يتحول من سرد إلى عهد، ومن تدوين إلى التزام، ومن مشاعر إلى ميثاق.
ثم لا يلبث هذا الميثاق أن يُصبح عقدًا معنويًا يجمع بين الجيل الذي بنى والجيل الذي سيبني، وتغدو العائلة بذلك أكثر من رابطة دم؛ لتصبح جماعة معنًى تحمل في وعيها الجماعي رسالة، وتحسن تمثيلها في المجتمع، وتعرف كيف توصلها إلى من يأتي بعدها، وفي ترسيخ هذا الميثاق، تتعزز صيانة المنظومة الأخلاقية للعائلة، ويغدو الإرث الأخلاقي جزءًا أصيلًا من السيرة، مغروسًا في الأجيال القادمة بوصفه معيارًا حيًّا يُحتكم إليه في بناء المواقف واتخاذ القرارات، لا مجرد شعار يُستدعى عند الحاجة.
ويتجلّى جمال بناء الإرث العائلي في مرونته؛ فليس بالضرورة أن تكون للعائلة سيرةٌ ممتدةٌ في التاريخ، أو حضورٌ واسعٌ في المجتمع، إذ تتفاوت العائلات في أحجامها وتاريخها ومساراتها بطبيعة الحال، غير أن ما يثبت عبر كل اختلاف هو هذا الوعي الخفي الذي تتقاسمه العائلات التي تبني لنفسها معنىً متصلًا؛ أن في كل عائلة نواة من القيم والمعاني تستحق أن تُصان وتُبرز وتتضح معالمها، وأن كل تجربة تنطوي على قيمة يمكن أن تكون بذرة لإرث طويل، ولكل عائلة أن تتأمل خصوصيتها وسماتها، وتستخرج من ذاتها ما يصلح للبناء عليه، وتنسج منه إرثها الخاص بطريقتها، وبحسب ما فُتح لها من مجالات ونعم وتجارب، ممتدةً بروحها نحو أثرٍ يبقى.
وحين يتحوّل هذا الوعي إلى فعل، تتجه العائلة إلى تحويل ما آمنت به إلى أثرٍ حيّ؛ فتُطلق مبادرة، أو تؤسس وقفًا، أو تبني مشروعًا يعكس ما تراكم فيها من قيم ومبادئ، وتفعل ذلك بوصفها شاهدةً على حياة الإرث في تفاصيل الواقع، واستمراريته في نسيج المجتمع.
وتلك هي صورة الامتداد الحقيقي؛ أن يعيش كل فرد من العائلة بوصفه نقطة في خط متصل، يستقبل ما قبله ويضيف عليه، ثم يسلمه لمن بعده، أن يحمل في وعيه أن ما يفعله يخص معنى أكبر يحمله، وأن العائلة تُقاس بما أُنجز في سياق رسالتها الكبرى، وأن الإرث يُبنى كما تُبنى المعاني العظيمة؛ بصدق التوجه، وسمو النية، وتراكم الأثر، واتصال النفس الطويل، وحين يجتمع ذلك كله في العائلة، فإنها تُخلّد اسمها في ذاكرة الأثر.


شارك المقال