أنوار العزلة.
/
/
العُزلة تُبعثِر وتُثير أَخْيَرَ ما فينا وكثيرًا ما نخرج منها مختلفين، تختمر المعارف التي نتلقَّاها والتجارب التي نتعرّض لها في انتظار عُزلة تعالجها ثم تُعيد إنتاجها في ثوبٍ جديد، أغوار مكة وأثلاث رمضان الأخيرة والهزيع الآخر من الليل كانت عُزلات إلهامٍ وتزوّدٍ لمقام النبوة صلى الله عليه وسلم، ومَن استروح العُزلة مرةً فلن يتأخر في طلبها أخرى.
أدواءٌ روحيّة، وشعثٌ، ووعثاءٌ تعْلَقُ بالقلب، والتطهُّرُ منها يتطلب عملًا روحيًّا مكثفًا في مَعزِل، يُتخفف مِن الكَدَرِ الذي يُصيب العلائق الاجتماعية بعُزلةٍ تُعين على رؤية أشياء لا يراها إلا مَن دخل فيها ثم خرج منها.
تُثير العُزلة أكثر الأسئلة التي يحتاجها المرء في سيرهِ الحياتيّ ثم تأخذ بعزيمتهِ ليختار طريق الإجابات الصحيحة، العُزلة التي يُهرَبُ إليها من التكاليف ضعفًا أو خوفًا: عُزلةٌ قسريّة سلبية مهما جاءت الحيل النفسيّة بخلاف ذلك، ويُقابلها العُزلة الاختيارية، وهي التي يختارها المرء بين أيامهِ الصاخبة الكثيفة ليرجع أكثر نشاطًا وعطاءً، هي العُزلة التي يؤثرُها المرء ليخلو بنفسهِ وينصرف إلى التأمل؛ ناشدًا ضالّته أو باحثًا عن حكمة بعيدة أو محاولًا إدراك معنًى غائبٍ عن العقول والأنظار وأسرار الوجود، أو لتحقيق غاية معرفيّة أو إبداعية تتطلب بُعدًا عن الشواغل والقواطع، العُزلةُ مساحة ينظر المرء فيها إلى المواقف التي يتبنَّاها أهو مُقتنعٌ بها أم لأنَّ العقل الجَمعي دفعهُ إليها ولم يترك لهُ فرصة لينظر في مآلاتها بموضوعية، العُزلة التي نختارها بوعي هي التي نتحدث عن عوائدها، أما الوحدة فلا تكاد تؤول إلى خيرٍ أبدًا.
يرى الفيلسوف الأندلسي ابن باجة: “أن الفرد لكي يعيش كما ينبغي أن يعيش الإنسان على نور العقل وهُداه عليه أن يعتزل المجتمع في بعض الأحايين” ، كما يرى نيتشه “أن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشدد عزائمها”، ويرى عالم النفس السويسري كارل يونج: “أن الحاجة إلى العزلة تتمثل فيما أسماه بالعمل الداخلي، أي استكشاف أعماق النفس الباطنة، ذاك الكون الصغير في دواخلنا!، وتحدث الفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف والدو إيمرسون عن مفهوم العزلة برؤية مختلفة، موضحًا: “أن الطبيعة تداعب خيال الإنسان عندما يكون بمفرده بشكل لا يحدث عندما يكون برفقة آخرين”.
لا يوجد قالَب واحد للعُزلة النافعة، والذين يختارونها في مواسم التألّه يتحدثون عن عوائد أبقى وأنفع، فأوقاتٌ كالسَحَر، وعصر الجُمعة، واعتكافٌ في العَشر الأخيرة من رمضان، وموسم الحج؛ هي بعض وجوه العُزلة التي تحمل في معاطفها خيرًا كثيرًا.